ستمد الدعوة لإعادة وضع الأمن الغذائي ضمن أولويات السياسات العمومية أهميتها من تطورات السياق الدولي الموسوم بالتزايد المستمر للساكنة العالمية، والتحديات التي تفرضها التغيرات المناخية والتوترات السياسية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والوبائية.
وفي حين تقترب جهود الرفع من مساحة الأراضي الزراعية المغربية من بلوغ حدودها القصوى، فإن المنتوجات المجالية الوطنية تواجه منافسة شرسة ومخاطر جمة وتقلبات مستمرة للأسواق الدولية على مستوى التزود المواد الاستراتيجية.
كما نسجل غياب رؤية واضحة واستراتيجية بعيدة المدى حول الأمن الغذائي ضمن المخططات الفلاحية الأخيرة (مخطط المغرب الأخضر 2008 والجيل الأخضر 2020)، وارتفاعا غير مفهوم لأسعار الأسماك رغم شساعة المياه الإقليمية.
وسيحاول المقال التالي وضع مفهوم جديد وموسع للأمن الغذائي المغربي، يتماشى مع أدواره الإقليمية والقارية الجديدة “بناء ديبلوماسية الغذاء”، والتوصية بضرورة إعادة رسم خريطة الإنتاج الفلاحي بما يحقق حماية واستدامة مواردنا الطبيعية المهددة، وتلبية الاحتياجات الوطنية بأسعار معقولة.
تعميق وتطوير مفهوم الأمن الغذائي المغربي ليستجيب للتحديات المستجدة محاولة منا للتقعيد لمفهوم الأمن الغذائي المغربي، يمكن تعريفه بكونه يمثل “القدرة على تلبية الاحتياجات الغذائية لجميع المواطنين في الحاضر والمستقبل، بأسعار مقبولة وجودة صحية آمنة، وخريطة إنتاجية ضامنة لاستدامة الموارد الطبيعية وتحقيق الاستقلالية عن مضاربات الأسواق العالمية ومراعاة المخاطر الطبيعية والأزمات الدولية، بالإضافة إلى تعزيز بنيات التخزين الاستراتيجي وحماية قطعان الماشية وصون البذور المحلية المغربية، وتقديم الدعم الممكن للبلدان المتضررة “دبلوماسية الغذاء”.
(موسى المالكي، 2021: الأمن الغذائي المغربي وحماية المنتوجات المجالية الوطنية، أشغال الملتقى الوطني السابع للجغرافيين الشباب حول حماية وتثمين المنتوجات المجالية الوطنية ورهانات تدبير الأزمات في عالم متحول، المحمدية)وتأتي هذه المحاولة أخذا منا بعين الاعتبار للنمو السكاني المستمر بالمغرب “استحضار الاحتياجات المستقبلية” ضمن السياسات الفلاحية، بالإضافة إلى استحضار القدرة الشرائية للأسر وتفادي مخاطر التوترات الاجتماعية وغلاء المعيشة.
وقد انضافت إلى تحدي التغيرات المناخية وتوالي سنوات الجفاف وتدهور التربة، أزمات وبائية دولية متكررة “انفلونزا الطيور، انفلونزا الخنازير، جنون البقر، …”، آخرها الانتشار التراجيدي لوباء كورونا وانعكاساته على حركة التجارة العالمية وعرقلة نقل البضائع.
وتبقى الأسواق الدولية منفذا غير آمن ولا متاح في جميع الأوقات، ما يفرض عدم الارتهان به (أزمة قناة السويس، التوترات السياسية والعسكرية، مضاربات الأسعار، ابتزاز الدول المصدرة للمنتوجات الغذائية).
ولذلك يفرض تطوير وتوسيع بنيات التخزين الاستراتيجي للبلاد نفسه بشكل عاجل، بهدف تأمين احتياجات المواطنين المغاربة وأيضا قطعانهم لمدد زمنية تتراوح بين 5 و7 سنوات مقبلة، عوض القدرة الحالية التي لا تتجاوز أشهرا معدودة.
ويولي هذا المفهوم أهمية قصوى لحماية القطعان المغربية، التي تتعرض خلال سنوات الجفاف إلى مخاطر هلاك حقيقية، ويسبب خسائر اقتصادية محققة وانعكاسات اجتماعية جمة على أسر صغار الفلاحين، فقد ينزل سعر الشاة الواحدة في بعض المناطق والسنوات الصعبة عن 100 درهم، وقد يتم التخلي عنها دون مقابل.
ويفاقم الوضع ندرة وتدهور المراعي وغلاء أسعار الأعلاف رغم الجهود التي تقوم بها الدولة في توفير الشعير بأسعار مقبولة (درهمين للكلغ)، ولكنها تبقى غير محدودة.
ورغم سياسات انتقاء البذور والأنواع “البذور والأصناف الحيوانية المختارة” وأثرها المباشر على ارتفاع الإنتاج الفلاحي، إلا أن هذه المقاربة الكمية تخفي بين طياتها اندثارا تدريجيا للبذور المغربية وبعض الأصناف الحيوانية الأصلية “البلدي، المحلي” التي تظهر تكيفا مع قساوة الظروف المناخية.
يعزز مكمن الخطر، عدم قابلية محصول البذور المختارة بعد حصادها لإعادة الزرع، ما يبقي الفلاح رهينا لشركات إنتاج البذور وفقدان استقلاليته السابقة في توفير بذور الموسم المقبل انطلاقا من محصوله الذاتي.
ويحمل البعد الأخير لهذا المفهوم الجديد للأمن الغذائي المغربي أبعادا ديبلوماسية واستراتيجية (احتفال القطريين بالمساعدات الغذائية المغربية في أوج الحصار الخليجي، تضرر واستنكار الموريتانيين لإغلاق عصابات البوليساريو لمعبر الكركرات ومنع تزويد أسواق الجار الجنوبي بالمنتوجات الفلاحية المغربية).
وتؤكد جميع هذه العوامل وغيرها أهمية تركيز المغرب على اعتماد وتوسيع استراتيجية “ديبلوماسية الغذاء”، تجاه الدول الإفريقية والشقيقة وترسيخ التعاون “جنوب – جنوب”، بما من شأنه خدمة القضايا الوطنية والمصالح الاستراتيجية العليا، وفي مقدمتها الوحدة الترابية والمشاريع الاقتصادية الكبرى والمناصب والمواقع ضمن المنظمات القارية والأمم السامية.
مخاطر تواجه الأمن الغذائي الدولي والمغربي: لغة الأرقام تدق ناقوس الخطر تظهر أحدث معطيات منظمة الأمم المتحدة انتقال عدد سكان العالم من 2,6 مليار نسمة سنة 1950، إلى 7,7 مليارات حاليا، مع توقع بلوغ 9,7 مليارات سنة 2050 و11 مليارا في أفق 2100
من جهته، يدق تقرير منظمة الأغذية والزراعة ناقوس الخطر حول حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم سنة 2020. ففي سنة 2019، شمل النقص التغذوي نحو 690 مليون شخص، فيما لم يحصل أزيد من ربع سكان العالم (2 مليار) بشكل منتظم على أغذية مغذية وكافية، ويبقى الوضع معرضا للتفاقم بالقارة الإفريقية.
في الإطار نفسه، تكشف معطيات المندوبية السامية للتخطيط ارتفاع عدد سكان المغرب من 11,6 مليون نسمة سنة 1960 إلى 36,2 مليون نسمة حاليا.
وبمساحة إجمالية تصل إلى 710850 كيلومترا مربعا، فإن مساحة الأراضي الزراعية بالكاد تتجاوز عتبة 9 ملايين هكتار، منها 19% مسقية، أما القطيع المغربي فيزيد عن 19 مليون رأس من الأغنام، و5,6 ملايين رأس من الماعز، و3 ملايين رأس من الأبقار، و176 ألف جمل.
وحسب معطيات رسمية لمكتب الصرف المغربي لسنة 2016، فقد كلف استيراد القمح ما يعادل 12783,2 مليون درهم، منها 7976,5 مليون درهم سددت باليورو و4806,7 مليون درهم بالدولار، وبلغت تكلفة استيراد السكر الخام أو المكرر أزيد من 4625,1 مليون درهم دفعت بالدولار، فيما فاقت قيمة استيراد الذرة 3804,8 مليون درهم سددت بالدولار.
ورغم عدم شمول المعطيات المقدمة جميع المنتجات الغذائية، كزيوت المائدة والشاي والمواشي وغيرها، إلا أنها تكشف إرهاق خزينة الدولة واستهلاك احتياطات البلاد من العملات الصعبة.
وبالانتقال إلى قطاع النباتات الطبية والعطرية، يتوفر المغرب على 4200 نبتة، منها 400 صنف ذات خصائص طبية وعطرية، تؤمن 500 ألف يوم عمل سنويا، ويحتل المغرب بفضلها المرتبة 12 عالميا عبر تصديره 52 ألف طن من الأعشاب، و5000 طن من الزيوت الخاصة بها (الموقع الرسمي للوكالة الوطنية للنباتات الطبية والعطرية).
ويواجه هذا الإرث الإيكولوجي الغني استنزافا مهولا واستغلالا كثيفا، وبأساليب مضرة لتجدده ومهددة باندثاره، وحتى الصادرات المغربية تتم في معظمها بشكل خام وغير خاضع للتحويل، وتستفيد من قيمتها المضافة الدول المستوردة بالأساس، في حين يمكن جعله في قلب الصناعة الدوائية والعلاج الطبي بالمغرب.
وتظهر المعطيات الميدانية والتجربة المعيشية الشخصية ارتفاعا ملحوظا لأسعار معظم المواد الغذائية، كالخضر والحبوب والأعلاف والأسماك، ونظيرتها المصنعة كالشاي والسكر والزيوت. ولعل انخراط فئة مؤثرة من المستهلكين ضمن مجموعة من حملات المقاطعة الموجهة لمواد استهلاكية أساسية، كالحليب والأسماك وزيت المائدة، يزكي ذلك.
ويطرح توفر المغرب على أزيد من مليون كلم مربع من مجاله البحري أكثر من سؤال حول أسباب تردد موجات الغلاء وارتفاع أسعار الأسماء بجميع أصنافها حتى “الشعبية” منها (كالسردين)، دون الحديث عن قائمة واسعة من الأصناف التي أضحى الوصول إليها نخبويا أو مناسباتيا.
وتظهر صور الأقمار الاصطناعية المدعمة بأبحاث ميدانية تسارع وتيرة الزحف العمراني على أخصب الأراضي الفلاحية وأكثرها ملاءمة مناخية (المحور الممتد من القنيطرة إلى الجديدة)، مما يضاعف سنويا المساحات المفقودة ويفقد المدن المغربية أمنها وسيادتها الغذائية، ويتسبب في ارتفاع أسعار الخضر وغلاء المعيشة وتضرر الفئات الاجتماعية الفقيرة.
وتشكل مدينة الرباط مثالا حيا لمظاهر الإجهاز على الأراضي الفلاحية المحيطة بالمدن، فالعاصمة تستعد لتوسع جديد على مساحة تفوق 1000 هكتار في إطار مشروع “تهيئة هضبة عكراش”، ومعلوم أن مشروع تهيئة ضفتي وادي أبي رقراق سيغطي بدوره نحو 6000 هكتار. (سبق نشر مقال بهذا الخصوص على موقع هسبريس تحت عنوان: تشجيع برامج الزراعة الحضرية يعزز الأمن الغذائي بالمدن المغربية).
إعادة رسم خريطة الإنتاج الفلاحي ضرورة ملحة لتحقيق الأمن الغذائي المغربي يظهر تحليل الوثائق الرسمية لأحدث استراتيجيتين فلاحيتين مغربيتين (مخطط المغرب الأخضر 2008 والجيل الأخضر 2020)، عدم وجود رؤية واضحة أو استراتيجية شاملة لمعالجة قضية الأمن الغذائي الوطني، باستثناء جهود الرفع من حجم الإنتاج والصادرات.
وفي ظل المتغيرات البيئية والاقتصادية والاجتماعية الدولية، أضحت مراجعة وإعادة رسم خريطة الإنتاج الفلاحي أمرا ملحا على أساس قواعد دقيقة تضع حماية مواردنا الطبيعية المهددة وإعطاء الأولوية لاحتياجات الشعب المغربي في مقدمة الأولويات.
فالخريطة المقترحة تشجع إنتاج ما يستهلكه المغاربة وقطعانهم قبل السعي لتلبية متطلبات الأسواق الدولية، عدم تصدير الماء من مناطق الخصاص إلى دول الوفرة-حالة الطماطم والحوامض-على سبيل المثال.
وتستوجب الخريطة الجديدة منع ممارسة زراعات مستهلكة للماء في مناطق الجفاف والعطش، فلا يعقل أن تستمر زراعة البطيخ الأحمر “الدلاح” بزاكورة في ظل استهلاك الثمرة الواحدة لما بين 500 وألف لتر من مياه السقي، بينما تواجه الواحة قساوة الجفاف والساكنة المحلية مخاطر العطش.
ويمكن اعتماد بدائل اقتصادية أخرى، كحماية وتكثيف منظومة النخيل في الجنوب الشرقي للمملكة وعموم المجالات الواحية، وتشجيع الزراعات المستدامة ذات القيمة المضافة العالية (النباتات الطبية والعطرية، الورود، التوابل، …)، وتربية الرخويات “الحلزون” وتربية النحل، مع التثمين والتحويل والمواكبة في التسويق الوطني والدولي.
وبالانتقال إلى سهوب المغرب الشرقي، يمكن تكثيف إنتاج العسل الطبيعي بجودة عالية وبقيمة مضافة مرتفعة تلبي الاحتياجات الداخلية وتمنحنا موقعا تنافسيا على الصعيد الدولي.
وسيدر توطين المغروسات الشجرية المثمرة بالمناطق الجبلية المنخفضة، عائدات مالية هامة، ويؤدي أدوار بيئية هامة على مستوى تثبيت التربة وحمايتها من التعرية، خاصة إذا تم التركيز على الأصناف المقاومة لقساوة الظروف المناخية وذات القيمة العالية (الزياتين، الخروب، اللوز والتين).
ولعل النجاح الذي رافق توسيع مساحات الصبار بالعديد من المناطق شبه الجافة، وتطور سلسلة تثمين مكتملة من الإنتاج حتى التحويل والتسويق، خير دليل على أهمية التوجه نحو اختيار مغروسات مقاومة، لولا انتشار الحشرة القرمزية التي خربت نسبة هائلة وتستدعي تدخلا فوريا وشاملا.
وفيما يتعلق بإشكالية أسعار الأسماك المرتفعة، لا بد لإحداث مشاريع عملاقة للإنتاج الصناعي “مزارع الأسماء وتربية الأحياء المائية” أن تخفف من الضغط على هذه الثروة وتخفض الأسعار لتجعلها مناسبة للقدرة الشرائية لفئات أوسع من المواطنين.
ووثائق التعمير مدعوة رفقة فعاليات المجتمع المدن لتطبيق الحماية القانونية الصارمة للأراضي الفلاحية في محيط المدن، واختيار مواقع التكتلات العمرانية والمدن الجديدة بعيدا عن الأراضي الخصبة.
وللتعويض عن المساحات المفقودة، يمكن تكثيف الزراعة الحضرية في الساحات والأسطح والشوارع، وإعادة زراعة وغرس الأحزمة الخضراء بأشجار مثمرة عوض الأصناف غير المنتجة والمستنزفة للماء والمنهكة للتربة (هيمنة أشجار الأوكاليبتوس).
إن الخريطة الجديدة لإنتاج الفلاحي التي نوصي بها عبر هذا المقال، ينبغي أن تتجه نحو اختيارات غير استراتيجية “تكنولوجيات مبتكرة لزراعة الصحراء المغربية”، وعلى حماية المنتوجات المجالية وتوظيف نظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بعد، وصور الأقمار الاصطناعية.
ويشترط في إنجاح الخريطة الفلاحية الجديدة للمغرب، أن تتم بتشاور وتنسيق ومشاركة الساكنة المحلية الريفية والحضرية، وبخبرات المتخصصين من علماء الجغرافيا والبيولوجيا والزراعة وغيرهم، وعلى توقع المخاطر وإيجاد آليات تقنية لتخفيف أضرارها (شبكات حماية المغروسات من موجات البرد “التبروري”.